الخطبة الأولى:
الحمد لله العظيم الخلاق، مقسم الأرزاق والأخلاق، ونشهد أن لا إله إلا الله العدل في عطائه، ونشهد أن سيدنا محمدا خاتم أنبيائه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله، قال جل في علاه: ﴿واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور﴾.
أيها المؤمنون: إن النفوس تحتاج دوما إلى تعاهدها، وتنقيتها من أسقامها، فهنيئا لمن هذب نفسه من عيوبها، وزكاها مما يلم بها، ﴿قد أفلح من زكاها* وقد خاب من دساها﴾.
وإن من أخطر ما يعتري النفوس من الأمراض؛ داء الحسد، الذي هو تمني زوال النعمة عن صاحبها. وهو غير الغبطة؛ التي يتمنى فيها المرء مثل حال الآخر، من غير إرادة زوال النعمة عنه. والحسد شر كله، وضرر كله، وخطر كله، وهو ذنب عظيم، يأكل الحسنات، ويوقع صاحبه في المحظورات، ويقطع العلاقات، ويزرع البغضاء بين المتحابين، ويورث الشحناء بين المتوادين، حتى يفرق بين الأخ وأخيه، ألم تروا كيف فعل الحسد بإخوة يوسف عليه السلام؟ لقد دفعهم إلى إنكار فعل أبيهم، ومحاولة قتل أخيهم، ﴿إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين* اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين﴾. فما أقبح الحسد من خلق! كيف لا؟ وقد أمرنا الله تعالى أن نستعيذ منه ومن أصحابه فقال: ﴿ومن شر حاسد إذا حسد﴾.
ونهانا النبي صلى الله عليه وسلم عنه فقال:«لا تحاسدوا». و«لا يزال الناس بخير ما لم يتحاسدوا»، كما حذر منه العقلاء والعلماء والأتقياء، قال ابن مسعود رضي الله عنه: لا تعادوا نعم الله. قيل له: ومن يعادي نعم الله؟ قال: الذين ﴿يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله﴾، نعم؛ أولئك المعادون لنعم الله تعالى على عباده، يتمنون زوالها عن خلقه، ﴿أشحة على الخير﴾، ينسون كل فضل، ويقبحون كل جميل، ويشوهون كل حسن، تضيق نفوسهم الحاسدة بإنجازات غيرهم، فيقللون من قيمة نجاحاتهم وإبداعاتهم، تراهم بحسدهم يحرمون المجتمع من الاستفادة من عقول أبنائه الصادقين المخلصين، إذا ظهرت نعمة على أحدهم حسدوه، وإذا ترقى زميلهم كرهوه، وإذا تفوق صديقهم أبغضوه. ألا لا تستهينوا بالحسد، فكم من نعم زالت، ومصالح تعطلت، وأسر تشتتت، بسبب حسد الساخطين على قسمة ربهم، المتطلعين إلى ما في أيدي غيرهم.
عباد الله: إن مما يعالج نفس الإنسان من الحسد: أن يؤمن بقضاء الله وقدره، وعدله في رزقه، فكن يا عبد الله موقنا بربك؛ إذا رأيت نعمه على إنسان، فادع له بالزيادة والخير، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه، فليدع له بالبركة».
وإذا أبصرت الناجحين فاجتهد كما اجتهدوا، تنجح كما نجحوا. واعلم أن سلامة الصدر والنفس لذوي النعمة، مما يعالج الحسد ويدفعه، فراقب على الدوام نفسك، وأحب الخير لغيرك، يكمل إيمانك، وتسد المحبة والتسامح في مجتمعك. وإذا تسلل إلى نفسك شيء من الغيرة والحسد، فكن صريحا مع نفسك، واعترف بخطئك، واستغفر لذنبك، وتذكر قصة إخوة يوسف عليه السلام، فإنهم بعد أن أخطأوا في صغرهم، اعترفوا بخطئهم، وتابوا إلى الله من ذنبهم، وطلبوا السماح من أبيهم، فقالوا: ﴿يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين﴾. وأقروا بفضل الله على أخيهم، واعتذروا له قائلين: ﴿تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين﴾، فغفر الله لهم، وأعلى منزلتهم.
فاللهم طهر قلوبنا، وقنعنا بما أعطيتنا، واحفظنا في أنفسنا وأهلينا وأموالنا، واجعلنا عاملين بقولك يا ربنا: ﴿يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم﴾.
أقول قولي، وأستغفر الله ربي.
الخطبة الثانية:
أما بعد: فيا أيها المؤمنون: إن الحسد ينافي كرم النفس، وحسن الخلق، وكمال الإيمان، تأملوا إن شئتم قول حبيبكم ونبيكم عليه الصلاة والسلام: «لا يؤمن أحدكم، حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه».
ألا فتجنبوا الحسد كله، وتأملوا في سوء عواقبه، فإنها وخيمة على صاحبها ومن حوله، فالحاسد لا يهنأ له عيش، ولا يهدأ له بال، فهو في ألم دائم، وضيق مستمر، يتنغص في نفسه، ويعكر صفو الناس من حوله، يشغل نفسه بمراقبة الناس؛ فتراه مشتت الذهن، ضيق الصدر، قد نزل به ما يتمناه من ضر لغيره، ﴿ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله﴾.
فاتقوا الحسد يا عباد الله، واحذروا أسبابه؛ فلا تتباهوا بنعم الله عليكم، ولا تستعرضوا بطرا وكبرا ما أسداه سبحانه إليكم، بل اجعلوه وسيلة لشكر ربكم، والإحسان إلى غيركم، ألم تسمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن كل ذي نعمة محسود».
والحذر الحذر، من أن تقارنوا أنفسكم بغيركم، أو تظنوا أن تميزهم تقليل من شأنكم، ألم تتأملوا قول ربكم: ﴿ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض﴾. ﴿واسألوا الله من فضله﴾؛ تسعدوا في دنياكم، وتفلحوا في آخرتكم.
هذا وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين، وارض اللهم عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة الأكرمين.
اللهم طهر قلوبنا من الحسد، ولا تجعل في قلوبنا غلا لأحد، وأعذنا من شر كل ذي حسد.
اللهم اجعلنا بك مؤمنين، ولك عابدين، وإليك منيبين، وعن الحسد وأسبابه مبتعدين، وبوالدينا بارين، وارحمهم كما ربونا صغارا يا أرحم الراحمين. ربنا ما سألناك من خير فأعطنا، وما قصرت عنه دعواتنا فبلغنا، إنك أنت الوهاب.
اللهم أدم الاستقرار على دولتنا، وأتم العافية علينا، ووسع لنا في أرزاقنا، وبارك لنا في أزواجنا وذرياتنا.
اللهم وفق رئيس الدولة، الشيخ محمد بن زايد، ونوابه وإخوانه حكام الإمارات، وولي عهده الأمين؛ لما تحبه وترضاه.
اللهم ارحم الشيخ زايد، والشيخ راشد، والقادة المؤسسين، وأدخلهم بفضلك فسيح جناتك، واشمل شهداء الوطن برحمتك وغفرانك.
اللهم ارحم المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات: الأحياء منهم والأموات.
اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا.
(ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار).
عباد الله: اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم. وأقم الصلاة.